بقلم: اسامة الدليل
الحروب الحديثة. لا تنشب إلا بغتة، ولا تنطلق رصاصاتها الأولى إلا فى الظلام، ولا تدور رحاها إلا فوق رءوس المدنيين والأهم. إنها تذاع على الهواء مباشرة. هذا العنصر الأخير أصبح اليوم هو جوهر عملية فرض الإرادة بالقوة، الذى يربح فى هذا (العرض التليفزيوني) هو المنتصر، فهو الذى يحصد ثمار البث الحصرى المباشر، وهو الذى يملك أن يتحكم فى تحديد وقت (الفاصل) الإعلاني، حيث تقام السوق الكبيرة على حساب قلوب وعقول ملايين المشاهدين، وهو الذى يملك ـ حصريا أيضا ـ تعريف النصر والهزيمة، والنجاح والفشل، وحتى الجهاد والإرهاب. أو. هكذا «يتصورون»!!
ومنذ السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين، وفى أعقاب حرب تحرير الكويت، كان الباحثون العسكريون فى أمريكا يعكفون ليل نهار لتحويل أجهزة التليفزيون فى بيوتنا إلى منصات لإطلاق الصواريخ على المشاهدين فى كل أنحاء العالم، وبالذات فى البيئات المعادية، ففى دراسة مثيرة كتبها العميد مارك فيلمان عام 1992 وقدمها لمعهد دراسات القوات الجوية المتقدمة بقاعدة ماكسويل الجوية فى ألاباما بعنوان: صدام الإعلام والعسكرية ومفهوم الحرب الحديثة. انتهى الباحث للقول: خلال القرنين المنصرمين، حاول المنظرون العسكريون تحديد (كود) لمباديء الحرب لا يستخدم فحسب دليلا ومرشدا قبل التخطيط للمعارك أو البدء بالحملات العسكرية، ولكن يستتخدم أيضا كإطار مرجعى لتحليل النجاح فى ساحة القتال. ففى الستينيات (من القرن العشرين) ولد مبدأ أساسى للحرب من خلال تطوير التليفزيون ونمو أخبار التليفزيون، فللمرة الأولى فى التاريخ تم جلب حقائق الحرب الصعبة إلى غرف المعيشة فى أمريكا من خلال نشرات الأخبار الليلية. الوسط المرئى المؤثر غير بالفعل العلاقة ما بين أخبار الإعلام والطريقة التى تصنع بها الحكومة سياساتها، وبذلك لم يعد ممكنا استخدام القوة العسكرية للأمة من دون التفكير فى الطريقة التى تظهر بها هذه القوة فى أخبار الإعلام!!
التضليل المستمر
وفى السنوات العشر المنصرفة، ومنذ العام 2000 والعسكرية الأمريكية تبحث عن النصر فى الإعلام لا فى ساحات القتال، وبالذات فى عالم الصوت والصورة والكلمة المطبوعة، وفى دراسة (خطيرة) للعميد مايكل ريتز قدمها إلى معهد المخابرات والشئون العامة بالقوات الجوية الأمريكية فى العام ذاته تحت عنوان: مقال حول مفهوم الصورة الإستراتيجية، قال بالنص: خلال صراع الخليج الفارسى (يقصد حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت) استخدم الرئيس جورج بوش (الأب) والجنرال كولين باول الصورة الإستراتيجية المتلفزة من أجل توصيل قرار التحالف إلى الأمة (الأمريكية) وإلى صدام حسين وإلى باقى العالم، فيما يخص الرئيس بوش كانت تلك فرصته فى ضبط الموجة فى الصراع المقبل، فتعليقاته بشأن «رسم خط فى الرمال» ساعدته فى بناء صورته الإستراتيجية العالمية، حيث استخدم المزج ما بين حقائق الصورة وما بين طريقة إدراكها فى إرساء شعور بالقوة المهيمنة الكلية، وألحق ذلك بالصور المرئية لاستعدادات قوات التحالف على صحارى السعودية، وهو ما كرس صورة بوش الإستراتيجية على نحو أكثر صلابة، وفى حالة الجنرال باول وهو قائد عسكرى أساسى فقد كان قادرا على إرساء صورة إستراتيجية مماثلة من موقعه كعسكرى محترف: أن يجد عدوا وأن يقتله، وبنهاية اللعبة فى عملية عاصفة الصحراء كانت حقيقة صور زعماء التحالف وطريقة إدراك هذه الصور تشكل صورة إستراتيجية تتجاوز تلك الصورة التى كرسها صدام حسين وغيره من قادة العراق العسكريين.
ويمضى الباحث للقول: إن فهم القائد العسكرى ذى الرؤية فى المستقبل لطبيعة الإدراك البشرى هو العنصر الأساسى فى تكوين (حقائق الصورة)، وعليه يتوجب على القائد العسكرى أن يكون مرنا ومبدعا فى هذه العملية، وأن يكون قادرا على تبصر كلا الجانبين فى أى موقف مفترض فى زمن السلم وخلال الأزمات وعلى الأخص خلال الصراعات المسلحة، وهذا الفهم للظروف البشرية سوف يثبت أنه مهم للغاية للقائد ذى الرؤية عندما يتخير الطريقة المناسبة للإعلام الداخلى والخارجي، وعليه أيضا أن يكون معنيا بمستقبل قدرات الإعلام، أن اختراع محطات التليفزيون الدولى التى تعمل على مدار 24 ساعة عبر الأقمار الصناعية ووجود الخدمات الأخبارية مثل CNN وفوكس نيوز قد أعطتنا اليوم لمحة حادة حول صحافة البث المباشر فى القرن الحادى والعشرين، الإطلالة، الصورة المنظورة التى ستكون غاية فى الأهمية لقائد المستقبل. أما فيما يتعلق بطريقة إدراك الصور، فسنجد أن التضليل الإعلامى جزء أصيل من الثقافة الإنسانية منذ أن حفرت أول كلمة على الصخر: تحويل الخرافة إلى حقيقة والعكس بالعكس، ولكى يحرز القائد العسكرى النجاح فى المستقبل فإن عليه أن يقرر الطريقة التى سيستخدم بها التضليل الإعلامي، وأن هذا هو حجر الزاوية فى إدراك الصور وهو أمر مهم فى تحويل وتحوير حقائق الصورة إلى صورة إستراتيجية لاستخدام القائد العسكرى !!
وبعد ذلك بسنوات طوال، وفى ربيع عام 2005 كتب كينيث باين الباحث فى المعهد الملكى المتحد للدراسات الدفاعية (أكبر المعاهد العلمية العسكرية فى بريطانيا) مقالا بعنوان: الإعلام كأداة من أدوات الحرب، نشر فى دورية باراميترز التى تصدر عن كلية الحرب الأمريكية. قال فيه: الإعلام فى العصر الحديث، دونما نزاع، هو أداة فى الحرب، ذلك لأن إحراز النصر فى الحروب الحديثة يتوقف بشكل كبيرعلى الرأى العام المحلى والدولى تماما كما يتوقف النصر على هزيمة العدو فى ساحة المعركة، وهى حقيقة بصرف النظر عن طموحات الصحفيين فى إحراز تقييمات متوازنة وجزئية عن الصراعات. إن تجربة العسكرية الأمريكية فى عالم ما بعد الحرب الباردة تظهر أن النصر فى ساحة القتال كان نادرا ما يكون ببساطة هزيمة العدو بقوة السلاح، ومن الصومال إلى هييتى مرورا بكوسوفو وأفغانستان، كان النجاح يتحدد بشروط السياسة بأكثر من شروط العسكرية. أن القادة العسكريين يربحون اليوم بأكثر من أى وقت مضى من خلال التحكم فى وسائل الإعلام وتشكيل ما يصدر عنها، وبرغم ذلك، فإن قوانين ومعاهدات الحرب لا تعكس بشكل متكافيء الدور الذى يلعبه الإعلام فى تشكيل الناتج السياسى من الصراعات المسلحة وأن القانون الإنسانى العالمى يفترض أن للإعلاميين نفس حقوق المدنيين، والسؤال الآن ما اذا كان هذا الحال سيتواصل إذا ما كانت السيطرة على الإعلام هى جوهر القتال وإذا ما تبين أيضا أن الإعلام ـ على اختلاف خلفياته ـ ليس عنصرا محايدا فى القتال!!
لا تنسوا ذلك
ومن مشاهد الحرب على الطالبان وما يسمى بتنظيم القاعدة فى أفغانستان فيما يعرف إعلاميا ـ لليوم ـ باسم الحرب على الإرهاب، إلى الحرب على العراق فيما أطلق عليه إعلاميا اسم (حرب تحرير العراق) وانتهاء بالصور التى تقصف بها آلة المخابرات العسكرية الغربية عالمنا العربى ليل نهار، هناك عمليات نفسية تتم طيلة الوقت فى سياق ما يسمى بحرب المعلومات، صور التعذيب فى أبوغريب التقطتها كاميرات جنود الجيش الأمريكى وكذلك صور إطلاق النار من المروحيات على المدنيين فى بغداد، ومن طرف غير بعيد تمارس إسرائيل اللعبة ذاتها، وقد كان ذلك جليا فى حرب غزة، الأسلوب واحد والصور واحدة والهدف أيضا واحد. تقول المؤلفة الأمريكية سوزان سونتاج صاحبة كتاب: النظر إلى آلام الآخرين. تعليقا على الصور التى تسربت عن سجن بوغريب (دع الصور الوحشية تتصيدنا، فحتى ولو كانت مجرد صور عابرة أو كانت غير قادرة على تجاوز أغلب الحقائق التى تشير إليها، فإنها تظل تؤدى وظيفة حيوية، تقول الصور: هذا ما تقدر على فعله الكائنات البشرية إما طوعا وإما حماسة وإما اقترافا للآثام. لا تنسوا ذلك)، ويقول ماثيو ريجيلانو الباحث بجامعة سيراكيوز الأمريكية: أن صور الحرب على صفة الخصوص ذات تأثير مباشر على الكيفية التى نفهم بها طبيعة الحرب وأسبابها ومشاعرنا نحوها وقيمنا الخاصة بالحرب، أن الصور التى نتعرض لها بشأن الحرب يتم إنتاجها من جهات متعددة ولأسباب متعددة، فالحكومة الأمريكية توظف هذه الصور فى تبرير وجودها المتواصل فى العراق، والجنود يقومون بالتقاط الصور وتسجيل الفيديو لتوثيق خبراتهم الشخصية فى أفغانستان، أما وسائل الإعلام فتقصفنا بآخر الصور الخاصة بضرب بغداد، والفنانون يستجيبون للحرب من خلال تشكيلة من الوسائط القوية، هذه الصور ـ من بين أشياء أخرى لها تأثير واضح ومباشر على «إدراكنا» للحرب!!
يقول عالم تحليل الصور الأمريكى دبليو جى ميتشيل: مازلنا نجهل ما هى الصور على وجه الدقة، وما علاقتها باللغة وكيف تقوم بعملها لدى المراقبين ولدى العالم، وعليه، فإنه برغم وضوح تأثير صور الحرب على تشكيل إدراكنا فإنه ليس من الواضح (الكيفية) التى تقوم بها بهذا العمل. وهنا يعودالباحث ريجيلانو للسؤال: يتوجب علينا أن نسأل عن الكيفية التى قامت بها صور أحداث 11 سبتمبر 2001 بتشكيل إدراكنا بشأن الحرب على الإرهاب والحرب على أفغانستان والعراق؟ كيف استخدمت الحكومة الأمريكية الصور لتضليل إدراكنا بشأن هذه الحروب المتعددة؟ كيف قامت أفرع الجيش المختلفة بتوظيف (الشارات المصورة) لتجنيد الشباب فى الجيش؟ كيف قام الإعلام بصريا بعرض فضائح الحرب؟ كيف أمكن لدمج الصحفيين فى كتائب الجيش الأمريكى المقاتل أن يشكل إدرا كنا من خلال الصور الفوتوغرافية؟ وكيف تمكن الفنانون وبالذات الفنانون المجندون فى الجيش من الاستجابة للحرب من خلال اللوحات التشكيلية والوسائط الرقمية الأخري؟
بالطبع نسى الباحث الأمريكى أو تناسى أن صور الطالبان وتنظيم القاعدة التى يتم من خلالها تسويغ الحرب على الإرهاب ليست جديدة تماما، فمن قبل وفى عهد الرئيس ريجان كانت صور تنظيم القاعدة وشباب المجاهدين تعتبر أيقونة (لمقاتلى الحرية) الذين يقاومون الغزو الشيوعى لإفغانستان، إنها الآلة الإعلامية ذاتها التى تروج صورهم اليوم باعتبارهم (أعداء الحرية) ، وهكذا تحدد آلة إنتاج الصور فى البنتاجون وأروقة أجهزة المخابرات الأمريكية وردهات الخارجية فى واشنطن ماهو الجهاد وما هو الإرهاب برغم أن الصورة واحدة!!
رائحة الصور
التضليل. هذا هو ما يراه الأمريكيون فى صور الحروب التى تشنها بلادهم، فماذا نرى نحن؟. وكيف يقرأ الناس الصور التى يتم قذفها عليهم من شاشات التليفزيون المحلية عن ساحات القتال القريبة من أوطانهم، أو حتى قريبا من غرف معيشتهم؟
تنتصر أمريكا على الشاشة بينما تقدر تحليلات كبار القادة العسكريين أن القوة الأمريكية فى حالة استنزاف أقرب إلى الهزيمة وأن النصر مستحيل لا فى أفغانستان ولا فى غيرها !!، ومع ذلك صدر التقرير الدورى بشأن حالة الدفاع الأمريكية (وهو تقرير يطلبه الكونجرس الامريكى كل 4 سنوات) فى أول فبراير الماضى 2010 ليقرر أن النجاح فى الحروب التى تخوضها القوات الأمريكية فى أفغانستان وباكستان والعراق واليمن هو مفتاح النصر فى حروب أمريكا المقبلة!!
هل يمكن أن نشتم من هنا روائح مكتب دونالد رامسفيلد ـ وزير دفاع بوش الابن ـ للتأثير الإستراتيجى فى مبنى البنتاجون؟ هذا المكتب الذى كان مثار فضيحة كبرى فى العالم وفى واشنطن ذاتها ببداية 2002 والذى كانت مهمته تنحصر فى دس أخبار مزورة ومعلومات مغلوطة فى الاعلام العالمى بحجة خداع تنظيم القاعدة؟، هل هى مؤسسة راند للأبحاث فى العلاقات العامة التى تتولى (مقاولات) الأبحاث العسكرية الخاصة بمستقبل الصراعات فى العالم الحديث؟ هل هى رائحة مبادرة كولن باول للشراكة الأورومتوسطية التى انطلقت فى سبتمبر عام 2002، لشراء وسائل الإعلام العربية والصحفيين والإعلاميين وتمويل جماعات نشطاء حقوق الإنسان؟. لقد سكبت الإدارة الأمريكية مئات الملايين من الدولارات من أجل إحراز النصر فيما تطلق عليه (حرب الأفكار) من أجل كسب العقول والقلوب فى الشرق الأوسط. فإلى أى مدى أحرزت النجاح فى البوم صور هذه الحرب؟
لقد تبادل تحالف الغرب وفى مقدمته واشنطن قذائف الصور مع الشعوب فى الشرق الاوسط، وطاشت قذائفه المصورة عن هدفها الرئيسي، وربما كان خطأ تقدير المسافة وتقدير الهدف فى هذا التنشين، هو الأبرز خلال السنوات العشر الماضية، ويمكننا بوضوح أن نبدأ من صور البرجين المحترقين لمركز التجارة العالمى فى مانهاتن وعليها لافتة (أمريكا فى حرب) هذه الصور التى جسدت مبدأ الرئيس بوش الابن (من ليس معنا فهو ضدنا) والتى كانت أيضا وراء تجسيد صورة إستراتيجية أوسع تتعلق بالمحارب الصليبى بوش الذى وضع خطا فاصلا بين (نحن) و(هم) عندما تحدث عن صليبية جديدة ضد تنظيم القاعدة، هنا تشابهت الصور، فقد كانت صورة (المقاتل الصليبي) تواجه صورة بن لادن الذى رسم لنفسه من خلال رسائله المصورة والمتلفزة صورة (المجاهد الإسلامي)، ما دعا العديد من المحللين إلى الإشارة لصورة بوش وكأنها انعكاس مرئى لصورة بن لادن، ثم جاءت من بعد ذلك صور قصف أفغانستان فى الجبال الموحشة الخالية لتثير تساؤلات المحللين الإعلاميين والعسكريين عن جدوى الحرب، ذلك أن القذائف التى كانت تتفجر هنا وهناك تتكلف الواحدة منها آلاف الدولارات بينما لا تتكلف منازل المدنيين الأفغان المبنية بالطين سوى 5 دولارات!!
إلى جهنم
ومن بعد أفغانستان طاشت الصور الهجومية على العراق، وخرجت آلة الإعلام الرقمى لتقصف المشاهدين على مدار 18 شهرا أو يزيد فى جميع أنحاء العالم بصور عن منشآت صدام السرية فوق الأرض وتحتها، ومدافعه العملاقة وأسلحة الدمار الشامل، وكانت صور المفتشين الدوليين فى زياراتهم المكوكية التى لم تعكس إلا التيه فى رحلة البحث المكوكية عن أسلحة لا وجود لها إلا فى صور الإعلام الغربي، وفى مقابل صور اجتماعات صدام حسين بحكومته وكلهم بالزى العسكري، كانت صور وزير الإعلام العراقى (الصحاف) الباسم المتهكم تردد أصداء صورة إستراتيجية للزعيم المقاتل صدام حسين الذى ظلت قناة الجزيرة التى تبث برامجها من قطر (حيث قاعدة العديد والسيلية الأمريكيتين) تورد فى تغطياتها تصريحاته النارية (بغداد مصممة أن ينتحر مغول العصر على أسوارها) ، وفى مقابل هذا التراشق جاءت صورة قصف بغداد ليلا بأضخم أسلحة إنتاج النيران فى حجم استفز شعوب المنطقة كلها، فخرجت صور المظاهرات فى شوارع القاهرة وبيروت ودمشق وحتى العواصم الأوروبية غاضبة وبعضها كان يحرق العلم الأمريكى والإسرائيلى معا، فى إشارة واضحة لرفض هذه الصور وتفريغها من محتواها، والحق أن واشنطن قد عالجت صورة هذه المظاهرات فيما بعد (من 2005 فما بعدها ) من خلال تمويلها لمنظمات مدنية كان هدفها مجرد إنتاج صور لمظاهرات ضد نظم الدول العربية كان اللون البرتقالى فى اللافتات وفى ملابس المتظاهرين يعكس صورة نجاح واشنطن فى تغيير الأنظمة فى جورجيا وأوكرانيا وغيرها من خلال العصيان المدني، لكن يظل التحليل الإستراتيجى للصور يقابل صورا ما يعتقد أنه الخلايا النائمة والنشطة لتنظيم القاعدة بصور شبكات منظمات حقوق الإنسان البرتقالية الممولة من ميزانية الخارجية الأمريكية.. نيابة عن وكالة الاستخبارات المركزية !!
ثم جاء الرد من المقاومة العراقية، صور ذبح الرهائن الأجانب وقطع الرءوس عن الأجساد فى مقاطع فيديو تم بثها على الإنترنت وترويجها على الأقراص المدمجة، وهى الصور التى تم الرد عليها من خلال نشر صور التعذيب بالعرى والانتهاك الجنسى فى سجن أبو غريب، وصور القتال داخل المساجد العراقية وإعدام المقاومين الجرحى داخل المسجد، إنه التكتيك ذاته الذى سبق وأن استخدمته آلة إطلاق الصور الأمريكية، عندما تم إعدام مراسل الجزيرة (طارق أيوب ) على الهواء مباشرة بقذيفة محكمة التنشين على بعد أمتار من قصر صدام حسين، إن عملية تصوير صدام حسين ذاته أثناء القبض عليه شاركت فى تحضيرها مؤسسة راند وأشرف على التصوير واحدة من أبرز مخرجات الإعلانات فى أمريكا، وكان الإعلان عن القبض على صدام عملية نفسية بالصور انطلقت من المركز الصحفى للقوات الأمريكية باحتراف مخابراتى رفيع المستوي، إذ كانت صورته والطبيب يكشف عن شعره وأسنانه تتطابق مع صور تفحص المواشى فى الأسواق العربية أثناء الشراء وقبل الذبح مباشرة، وكذلك كانت صورة إعدامه فى ليلة عيد مهم بالنسبة للمسلمين فى ذات القاعة التى كان يدير منها الحرب ضد إيران، هذه الصورة بالذات كانت جزءا مهما من الحرب التى أطلقها بوش ضد كامل المنطقة، ووقتها كانت المقالات فى الصحف الأمريكية تتساءل بدهشة عن بن لادن وهل هناك أحد لايزال يتعقبه من أجهزة مخابرات أمريكا، لقد كان العراق ملء كل الشاشات فى هذا التوقيت وتوارت تماما أى صورة لبن لادن وتنظيم القاعدة، وكأن مخططى الحرب يعلنون (نعم، حربنا الرئيسية هنا فى العراق، ومن هنا سيتغير الشرق الأوسط وسيولد شرق أوسط موسع جديد)، وفى سياق هذه الحرب كانت صور سحل وإحراق اثنين من موظفى شركة بلاك ووتر على أحد جسور بغداد ردا خطيرا على حرب الصور الأمريكية، سرعان ما قوبل بقذائف جديدة.. صور مقاتلى فرسان مالطة وهم يبيدون كل شيء فى الفلوجة، حينها صرخ الخبير العسكرى الأمريكى (رالف بيترز) صاحب نظرية خريطة الدم الشهير، وبالحرف قال: لم يكن من يقاتل جنود المارينز فى الفلوجة بكفاءة وفاعلية هم الإرهابييين أو المتمردين ولكن كانت قناة الجزيرة، فى الفلوجة سمحنا بأن يفلت من أيدينا مئات من الإرهابيين والمتمردين برغم العهد الذى قطعناه على أنفسنا بأن نقدمهم للعدالة، ولكننا توقفنا لأننا كنا قلقين بشأن ما قد يفكر به بشأننا السكان الكارهون لنا بالفعل، لقد أربك الإعلام العالمى سلسلة مراكز القيادة الأمريكية وقيادات قوات التحالف، كان بوسعنا النصر عسكريا وبدلا من ذلك استسلمنا سياسيا وسمينا ذلك نجاحا، لقد كسب أعداؤنا حرب المعلومات.. فنحن لم نكن نعلم من الذى يقاتلنا.. بالضبط!!
ومن بين صور عديدة كانت صورة حذاء مراسل قناة البغدادية العراقية منتظر الزيدى المصوبة باتجاه الرئيس بوش، تضع خطا لفصل جديد فى حرب الصور، إذ إنها أطاحت بصورة الرئيس الأمريكى الذى ناضل كثيرا من أجل صنع صورة إستراتيجية له قبل ذلك بسنوات، وهو يهبط بالباراشوت على حاملة طائرات ليعلن انتهاء العمليات العسكرية الكبرى فى العراق، ولينتهى كإمبراطور وكمقاتل صليبى فى لقطة تجمعه مع نورى المالكى يدفع عنه فردة الحذاء الثانية والأخيرة، (إلى جهنم) كان ذلك هو عنوان الصورة التى شيعت صدام حسين إلى حبل المشنقة، والعنوان ذاته كان هو الناتج النهائى لتحليل مضمون صورة ضرب الرئيس بوش فى بغداد بالحذاء!!
لقد امتدت حرب الصور بعد ذلك إلى جنوب لبنان وإلى غزة، وإلى دارفور وجبال اليمن وسواحل الصومال وحتى فى أعالى البحار، فى ضرب قافلة الحرية فى عرض البحر المتوسط من قبل البحرية الإسرائيلية، حتى صورة وزير الخارجية الإسرائيلى وهو يجلس السفير التركى على مقعد يلامس الأرض من أمامه، إنها الحرب ذاتها التى تصور الأوروبيين والأمريكيين هذه الأيام وهم يحتفلون بأعياد الميلاد، وسط ترقب أن تسقط السماء فوق رءوسهم بفعل أعمال تنظيم القاعدة. وفى المحصلة النهائية: حرب الصور لم تنقطع لساعة واحدة منذ الثامنة والنصف من صباح 11 سبتمبر 2001 وحتى اليوم، لم تنته وضباط المخابرات فى الجيش الأمريكى وفى حلف الناتو المتخصصون فى العمليات النفسية لم يتم تسريحهم بعد، لكن هذا الاحتمال سيظل واردا فى السنوات العشر المقبلة، عندما تكون الصور قد ملأت قلوب الغرب كله بالرعب من الإرهاب اللامرئى والذى لا وجود حقيقيا له، عندما تلتقط الكاميرات صور العاطلين والمفلسين فى الولايات الأمريكية والعواصم الأوروبية إلى جوار ضحايا الحرب من المقاتلين مبتورى الأعضاء، أى عندما تكون الصور قد هزمت الغرب ذاته دون أن تقدم لهم صورة بن لادن على المشنقة، أو تقدم لهم صورة عالم عربى وإسلامى لا يذعن لإرادة الصهيونية المسيحية، أو تخرج عليهم بصور شعوب تتظاهر وترفض استبدال الديمقراطية بالدين وبالاستقلال الوطنى وبالامن القومي. المثير بالفعل: أنه لا أحد يمكن أن يضمن للغرب النصر فى حرب الصور لا اليوم ولا لبقية القرن الحالي. ذلك أن القاعدة العلمية تقطع بأن الصور تكتسب بذاتها ولذاتها دورة حياة خاصة بها. لا يمكن التحكم فيها من بعد إطلاقها وبثها ونشرها فى الصحف والمجلات وشاشات التليفزيون!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق