مايو 2011 |
المصدر: الأهرام العربى
بقلم: اسامة الدليل
ماكريستال وأوباما | ||
الذين أتوا بالذئب من ذيله في باكستان قالوا إنهم تخلصوا من جثته في البحر. لكن المياه العميقة ليست ـ غالبا ـ مستودعا آمناً للأسرار.!
في الظاهر: رحيل أسامة بن لادن من المشهد لم ينف أن نفوذه لا يزال باقيا، فهو في الأصل لم يكن سوى «صورة مرعبة» روجتها المخابرات الأمريكية وعاونها علي الإخراج والتوزيع. آلة إنتاج الصور فائقة النفوذ. الإعلام الغربي، وفي عالم اليوم الصورة أشد من القتل. وهي أكثر وقعا وواقعية وفتكا من الأصل. ولعل هذه الحقيقة هي ما دفعت ليون بونيتا مدير المخابرات المركزية الأمريكية لأن يظهر إذعانه أمام رجاله في بيانه الذي وزعه عليهم في الثاني من مايو، برغم أن بن لادن مات فإن القاعدة ليست كذلك، فأعوانه بالتأكيد سيعملون علي الثأر له ويتوجب علينا أن ننتبه ونحذر. ولسوف نفعل!
وفى الباطن: إعلان قتل بن لادن ليس صكا بالغفران لعقد كامل من فشل المخابرات. بل على العكس القصة التى خرجت الإدارة الأمريكية لترويها على الملأ، كانت أكثر ثقوبا من قطعة الجبن التى وضعوها للفأر الميت فى المصيدة. وهكذا أفضى الإعلان عن موت بن لادن لإحياء آلاف القصص التى تعتمد نظرية المؤامرة. وقد تفجرت همة مواقع الإنترنت الأمريكية فى إعادة نشر العشرات من التصريحات والأخبار والتقارير التى تحويها سجلات أرشيف الصحافة الأمريكية والإسرائيلية والكندية. وهى لا تدع مجالا لأى شك. فى وجود خديعة ما، ليس أقل ما فيها أن بن لادن مات بشكل هادئ جراء مرض صدرى فى 15 ديسمبر 2001، وليس أشد ما فيها أن هناك شهودا حضروا جنازته وواروه ثرى أفغانستان. منذ سنوات طوال!
ومن دون الظاهر والباطن. وفى مكان آخر، تقبع حقائق غاية فى الخطورة، فأمريكا ـ والعالم من ورائها ـ لن تكون أكثر أمنا. وإعلان موت بن لادن ليس سوى سطر النهاية لعقد كامل من هيمنة عنصر الرعب على رسم السياسة الخارجية الأمريكية، ونهاية سيادة منطق (القيادة من الخلف). وفى الوقت ذاته، هذا الإعلان هو مجرد سطر البداية فى حروب أمريكا المقبلة، وهو مجرد حلقة فى مسلسل الخداع الإستراتيجى لخطة إعادة رسم خريطة العالم. انطلاقا من الشرق الاوسط!
المؤكد أن آلة الأمن القومى الأمريكى قد أصبح فى يدها الآن ما يمكنها من إعلان اصطياد الفيل الأبيض. والرئيس أوباما ضمن فى جيبه نصف حجته فى الوفاء بوعده الذى قطعه على نفسه فى أكتوبر 2008، لجون ماكين، سنقتل بن لادن وسنسحق القاعدة!. لكن المؤكد أيضا أنه منذ 11 سبتمبر 2001، ودور أسامة بن لادن فى قيادة عمليات القاعدة موضع شك وجدل فى الرأى العام الأمريكى والعالمى. وليس من الواضح، حتى وقت كتابة هذه السطور، ما إذا كان إعلان موته وإطعامه لأسماك البحر سيكون له أثر كبير فى إنهاء هذا الشك وهذا الجدل. حتى عندما تنتهى أصداء الصور الدرامية التى تنتجها حاليا آلة الدعاية الأمريكية. للعملية العسكرية التى أتت على رأس كان مرصودا لحصدها 25 مليون دولار. منذ 10 سنوات، دون أن يبالى بها أحد!
وفى نهاية يونيو 2010، وفى مؤتمر صحفى بثت وقائعه كل وكالات الأنباء العالمية. وبحضور مدراء وكالات مخابرات باكستان. اعترف ليون بونيتا بأنه لا توجد بحوزته أية معلومات عن موضع اختفاء بن لادن منذ أوائل هذا القرن. وفى هذا الاجتماع العام تأكد للجميع موت بن لادن أو قتله على حد تأكيد رئيسة وزراء باكستان السابقة بينظير بوتو عام 2001(!). وفى أعقاب هذا المؤتمر كان هناك يقين بأن الولايات المتحدة على أعتاب تغيير جذرى فى سياساتها الخاصة بالحرب على الإرهاب، وأنها بصدد التمهيد لإعلان انتهاء الحرب فى أفغانستان. خصوصاً بعد أن كان الجنرال ستانلى ماكريستال ـ الذى استقال فى توقيت متزامن مع هذا المؤتمر ـ قد أفاض فى الحديث عن مدى كراهية الأفغان لكرزاى ولفساده وفساد حاشيته، وعن المبالغ الطائلة التى تدفعها الولايات المتحدة لأفراد من الطالبان. وتورط كل من حوله فى القيادة العسكرية الأمريكية فى أفغانستان. فى تجارة المخدرات. وعن تحول نجاحه العسكرى الوحيد فى (المرجة) إلى أسوأ فشل عسكرى فى التاريخ الأمريكى (استهداف المدنيين).!
الآن، وبعد أقل من عام على اعتراف بونيتا. هو ذاته الذى يزف البشرى لرجاله فى وكالة المخابرات المركزية. إذ كتب بالحرف فى بيانه: اليوم خلصنا العالم من أكثر الإرهابيين شهرة فى عصرنا، فقد قامت قوة أمريكية ضاربة باقتحام مجمع سكنى فى أبوتاباد بباكستان وقتلت أسامة بن لادن، وحمد الله. لم يفقد أى أمريكى وتم بذل كل جهد ممكن لتجنب وقوع خسائر فى صفوف المدنيين. لا شيء يمكن أن يعوض الآلام والمعاناة التى تسبب فيها هذا القاتل وعصابته. لكن لأن الشيطان لا يستريح ولا يصنع خيرا. فربما كانت حقيقة أن أسامة بن لادن لم يعد يسكن هذه الأرض مصدرا لراحة الآلاف من العائلات، هنا فى أمريكا وحول الكرة الأرضية. التى تنعى ضحايا بربرية القاعدة، لكن المثير والغريب فى بيانه هو ما قاله بالنص: لقد كانت هذه الغارة هى محصلة جهود مكثفة لا تعرف الراحة من قبل ضباط مكافحة الإرهاب (على مدار سنوات عديدة)، فلقد صمم رجالنا ونساؤنا عمليات سرية غاية فى التعقيد والابتكار أفضت لتقديم بن لادن إلى أيدينا(!)
بالطبع لا يوجد ما يفسر هذا التناقض سوى الطبيعة المخادعة لعمل رجال المخابرات، لكن اعتبار قنص رجل واحد على أنه انتصار تاريخى للمخابرات المركزية الأمريكية. بينما يختلف المسئولون والمحللون من مختلف أنحاء العالم على تاريخ موته. هو أمر يخفى أبعد من مجرد إحراز نصر مجانى على رجل عملت المخابرات الأمريكية فى عهد الرئيس ريجان على صناعته. يدويا!
قد تكون واشنطن بالفعل على أعتاب الانسحاب من أفغانستان. وربما من العراق، لكن السؤال: إلى أين تتجه الآلة العسكرية الأمريكية بعد ذلك؟. بميزانية حرب ـ هذا العام 2011 ـ هى الأضخم فى تاريخها. 708 مليارات دولار. بخلاف 33 ملياراً مخصصة للحرب فى أفغانستان(!). وهو رقم مزعج بالمقارنة بميزانية الحرب لعام 2010، التى بلغت 680 مليار دولار. وهذه الأرقام ـ بالمناسبة ـ لا صلة لها بمخصصات الحرب على الإرهاب لنحو 16 وكالة مخابرات أمريكية. وهو ما يضاعف الأرقام السابقة. لكن يظل المثير للانتباه، أن الأرقام المخصصة للحروب فى عهد الرئيس أوباما تتجاوز أى خطوط حمراء لمن فجر أصلا تلك الحروب. الرئيس جورج دبليو بوش الذى بلغت ميزانية الحرب فى أواخر عهده بالبيت الأبيض 651 مليار دولار!
تمتلك وزارة الدفاع الأمريكية 1000 قاعدة عسكرية فى كل أرجاء العالم بما فيها تلك القواعد التى تمارس من خلالها الحرب فعليا، وتقوم بنشر 400 ألف مقاتل يتم إحلالهم وإبدالهم بصورة دورية. ولأمريكا أساطيل ضخمة فى مختلف بحار ومحيطات العالم مع قدرة جوية قادرة على تغطية أى بقعة على الكرة الأرضية. وعدد من الأقمار الصناعية لرصد أى تطور على كوكب الأرض، وعدد لا يمكن حسابه بدقة ـ وفقا لتقارير مجلة جينز العسكرية ـ من الصواريخ ذات الرءوس النووية الجاهزة للانطلاق فى أى لحظة لملاحقة المدن أو المنشآت العسكرية التى يحتمل أن يتحصن بها (العدو)!
ووفقا لتقرير الدفاع الأمريكى الرباعى الأخير (الذى يصدر كل 4 سنوات بطلب من الكونجرس) والذى صدر فى فبراير من العام الماضى فى 128 صفحة. ليرسم للكونجرس الأمريكى ملامح إستراتيجية الدفاع الأمريكى فى السنوات المقبلة. وقد ورد بوضوح فى هذا التقرير وجود أهداف أخرى للحرب فى عالم ما بعد أفغانستان وباكستان والعراق واليمن. إذ اعتبر التقرير أن إحراز النجاح فى هذه المناطق هو مفتاح النصر فى (حروب أمريكا المقبلة)، ووفقا لأفضل التحليلات العسكرية. فإن أهداف آلة الحرب الأمريكية مستقبلا تتعلق بإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية فى العالم وفى مقدمتها مناطق (الممانعة) من الوصول لمصادر الثروة الطبيعية ومناطق إعاقة الهيمنة الأمريكية صناعيا وتجاريا وسياسيا وعسكريا. هذه الممانعة هى المعادل الجديد لما كان يسمى بالإرهاب. وكلاهما بلا وجه، وكلاهما لا يمكن اعتباره لاعبا دوليا. وبالنص فى هذا التقرير: (أن توزيع النفوذ السياسى والاقتصادى والعسكرى يتبدل ويصبح أكثر انتشارا، فصعود الصين، أكبر بلدان العالم تعدادا للسكان، والهند أضخم الديمقراطيات. سيواصل إعادة تشكيل النظام العالمي، بينما ستظل الولايات المتحدة اللاعب الأكبر نفوذا ولذا يتوجب عليها (أمريكا) أن تزيد من تعاونها مع حلفائها الرئيسيين وشركائها لبناء وصيانة السلام والأمن. وبالذات فى مواجهة القوى التى تطور أسلحة متقدمة يكون من شأنها إعاقة قدرات أمريكا ونفوذها. كروسيا مثلا!
المؤكد، أن الجنرال بترايوس المرشح حاليا لتولى المخابرات المركزية الأمريكية بعد أن قاد العمليات فى أفغانستان، وكذلك بونيتا المرشح لتولى حقيبة الدفاع فى الولايات المتحدة. على أبواب المرحلة الأخطر فى تطور آلة الحرب الكونية. وبالذات بعد أن أصبح الشرق الأوسط فى وضع يسمح تماما بإعادة رسم الخارطة الجيوسياسية. والدخول بالتعاون مع باكستان (وهو تعاون مريب نشط للغاية أخيرا من خلال التعاون الاستخبارى الذى أفضى لإنجاز واشنطن الأعظم وكذلك الاندماج الباكستانى مع الدور التركى الجديد) إلى أفق رسم الشرق الأوسط الموسع. الذى يمتد من باكستان إلى المغرب. ويدمج إسرائيل فى المنظومة الإقليمية بعد إعادة رسم خارطتها الجيوستراتيجية. وتكريس وجود الفيلق الإفريقى بالجيش الأمريكي، من خلال جهود حلف شمال الأطلنطى فى عملية فجر الأوديسا. فى ليبيا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق