الأربعاء، 16 نوفمبر 2011

فى الطريق للصندوق الأسود للصراع فى ليبيا

المصدر: الأهرام العربى

عشت و شفت. اليوم الذى أحلق فيه فى سماء البحر المتوسط للوصول من القاهرة إلى تونس. عبر مالطا. لا عبر ليبيا. عشت وشفت و تأكدت من رعب طيار الخطوط التونسية وهو يتفادى آلة الحرب الأطلسية بينما يحلق فى رحلة داخلية فوق أراضى وطنه. من مطار قرطاج بالعاصمة إلى مدينة جربة جنوبا، ومن شوارع تونس التى تفقدتها لساعات قبل الإقلاع وحتى موعد ترحالى داخليا إلى جربة وجرجيس. عشت وشفت وتأكدت و بصمت بأصابعى العشرة. أن ثورة الياسمين كانت لحظة سقوط جدار برلين فى العالم العربى. وأن ما جرى من بعدها هو تكريس لأحادية قطبية جديدة فى الشرق الأوسط. تنتظر إعلان النصر المجانى لخارطة الدم!
صحيح أنه فى أقل من 23 يوم، هرب زين العابدين بن على. لكنه لم يسرق معه الوطن. صحيح أيضا أن تونس بقيت من بعده تغزل الأغانى والأحلام و الأمانى والعيون السود ورائحة الأرض الممزوجة بحكمة أشجار الزيتون ونكهة الحرية، ولكننى فى الطريق إلى الصندوق الأسود للأزمة الليبية. كان بمقدورى أن ألمس بيدى الحكاية التونسية فى شوارع العاصمة وضواحيها. من صالة مطار قرطاج إلى شوارع جربة وجرجيس وحومة السوق وصولا إلى رأس جدير. التى دخلت منها الأحد الماضى إلى الأراضى الليبية مرتعدا من البرد ووضوح ضوء القمر التونسى. ووحشة الأسئلة فى سماء تترقب صواريخ الموت البارد بذخائر أوروبا. التى تحمى حاليا المدنيين من الموت المحلى. بالموت المستورد!
كنت فى تونس للدخول إلى الأراضى الليبية من غربها، و هى التى تجاور بلادى ويمكننى دخولها من شرقها، وكنت تصورت أننى سأتفادى بذلك أن تهان عيونى برؤية مخيمات الإغاثة على الحدود المصرية الليبية، فما كان أسهل أن أعبر من منفذ مساعد بعد السلوم. لكن ما تفاديته من الشرق كان بانتظارى على الأراضى التونسية. ذات المخيمات يرفرف عليها علم تونس وأعلام بعض الهيئات الإغاثية الدولية. و فى غبش الفجر كان الخوف يحرس هذه المخيمات حاملا بيده السلاح وباليد الأخرى حواديت عن غرباء تم تعذيبهم ومصريين تمت إهانتهم وسلبهم وضربهم فى رحلة فرارهم من ليبيا إلى تونس. لكن الأخطر: أن هناك نحو مليون مصرى لايزالون على الأراضى الليبية. بعضهم متهم من قبل الحكومة بالتعاون مع الثوار كمرتزقة. وبعضهم متهم من المعارضين فى بنى غازى بأنهم مرتزقة يقاتلون لحساب القذافى. لكن المؤكد: أن خمسة آلاف مصرى على الأقل محتجزون فى ميناء مصراتة. كدروع بشرية!
الشعب التونسى العظيم ما يموتش، مازالت النساء تمضى فى شوارع مكتسباتها القديمة وتحتفظ بكامل حريتها الشخصية. لا يزاحمهن فى استقلالهن حاليا سوى المنتقبات، وكل فريق ينظر للآخر بريبة المترقب لحسم صراع يدور تحت جلد المجتمع التونسى. وبالذات مع تنامى المجاهرين بالصلاة فى غير المساجد من بعد ما كانوا يتخفون من نظام بن على و هم يمارسون الصلوات المكتوبة، ومازالت اللغة الفرنسية سيدة الموقف فى التعاملات اليومية. و لايزال الدينار محتفظا باحترام نفسه إذ يعادل الدولار 1.3 من الدينارات التونسية. وفى الطريق الضيق المظلم من جرجيس إلى رأس جدير، كانت هناك عبارات مكتوبة على أحد الجدران تتهم فلانا بأنه عميل الطرابلسية (أى أولئك الذين من أتباع ليلى الطرابلسية زوجة الرئيس التونسى المخلوع زين العابدين بن علىّ) إنه نفس التشهير الذى يطال فى القاهرة ذوى الصلات السابقة بالحزب الوطنى ومباحث أمن الدولة. وكل من تسول له نفسه أن يخرج عن الإجماع الثورى العام. ولقد كان من الواضح للغاية ومن أول لحظة وطأت فيها الأراضى التونسية أن الثورات الجديدة ملأت فراغ الديكتاتوريات السابقة. حيث لا معارضة. فكل اختلاف يستدعى النفى والاتهام بالعمالة والخيانة والثورة المضادة. وكأنه مكتوب على العالم العربى أن ينتقل للديمقراطية بلا أى معارضة. أى بلا ديمقراطية!
المؤكد أن ساعة وثوب الهوية السلفية لم تحن بعد. لا فى تونس ولا فى القاهرة. ولا أحد يمكنه أن يضمن أن يفضى ربيع الثورات العربية إلى صيف السلفية الدينية الحارق. لكن فى الريف التونسى تلمست إرهاصات هيمنة التطرف الجديد من خلال الشعارات المكتوبة على الجدران واللافتات التى تعتلى بعض الأبنية الرسمية وخواء المقاهى من روادها فى ساعات الليل الأولى. صحيح أن السلع الغذائية متوافرة و باتت مطمعا لبعض الليبيين الذين بدأوا يستشعرون حصارا فى الأغذية والمحروقات. لكن لا يوجد ما يدل على عمليات تهريب منظمة للسلع من تونس إلى ليبيا. مواطن ليبى وجدته فى حومة السوق يدعى مختار (وأحتفظ بباقى اسمه بناء على طلبه) قال لى إنه يحاول أن يجلب معه إلى ليبيا بعض أكياس المكرونة. وأنه يمضى من ليبيا إلى تونس طلبا لرزق بات عزيزا فى بلاده التى توقف فيها كل شيء تحت وقع ضربات الكر و الفر بين مناصرى القذافى و معارضيه. و ضربات الناتو. للطرفين!
عندما دخلت منفذ رأس جدير الحدودى بين البلدين لم يكن هناك أى عجب من حرس الحدود التونسيين، أن صحفيا يحاول دخول ليبيا فى هذه الظروف الخطرة. كان العجب من كونى مصريا، فالمصريون ومنذ منتصف فبراير الماضى يأتون بالآلاف من الاتجاه المعاكس. والأهم أن السيارة التى كانت تقلنى تتبع إدارة المراسم بالخارجية الليبية. أى اننى مصرى يحظى برعاية رسمية. وهو أمر أثار دهشتهم لأنهم يدركون ـ بحسب ما يسمعونه من قصص العابرين ومن وسائل الإعلام العالمية والفضائيات العربية ـ أن المصريين فى ليبيا موضع تعذيب رسمى و شعبى!
دوى صوت دق خاتم المرور على جواز سفرى بعصبية من يريد أن يتخلص من غريب مزعج فى منتصف الليل ومضت بنا السيارة لعشرة أمتار لاغير، حيث استقبلنى حرس الحدود الليبى كمصرى. صحيح أنه لا أحضان ولا سلامات. لكن كونى جزءا من لجنة لتقصى الحقائق على الأراضى الليبية جعلهم يتجاهلونى و كل من معى لساعة كاملة حتى يتبينوا الأمر من الخارجية الليبية. ومن بين الشك واليقين بادر بعضهم للسماح لى ومن معى من أعضاء المركز العربى الأوروبى لحقوق الإنسان (بروكسل) بالانتظار فى قاعة المراسم الفاخرة حيث طالت الساعات ونحن نتابع على شاشة التليفزيون ما تبثه قناتا العربية و البى بى سى. قبل أن تأتينا جوازات سفرنا ممهورة بخاتم العبور ومكتوب إلى جوار الخاتم الرسمى كلمة واحدة (تعليمات).
دقائق وكان بانتظارنا ممثلون من اللجنة الشعبية لرأس جدير. كان ترحيبهم حارا ومؤثرا، وكان ودهم لمصريتى مبالغ فيه ـ بالنظر لما سمعته وما ترسخ فى إدراكى من شعور الليبيين تجاه المصريين ـ وقاموا بالفعل بحماية سيارة المراسم حتى خروجنا من نطاق مسئوليتهم. عبر عشرات نقاط التفتيش التى يقف فيها مسلحون من الجيش الليبى. أغلبهم أسود البشرة تماما، لا يكاد الواحد منهم يبين وجهه فى ظلام الطريق السريع و هو يتفحص وجهى فى كل مرة يستوقفوننا فيها. وعلى طوال 180 كيلومترا من الخوف و الترقب والسرعة الزائدة لم أجد لافتة واحدة أو حتى علامة واحدة، تؤكد أن قذائف الأطلسى تعبأ بالمسافة الواقعة إلى غرب طرابلس. ولاحتى وجدت أثرا واحدا لأزمة وقود فى محطات (نفط ليبيا) المنتشرة على الطريق خاوية من طوابير السيارات المتعطشة للبنزين. و(المغازة والمحامص بعضها لا يزال ساهرا غير مبال بمخاوفنا. لم نسمع طلقات رصاص أو دوى تفجيرات على الطريق إلى طرابلس. رأيت ما كان يشبه عندنا اللجان الشعبية فى أثناء الثورة المصرية. مواطنون يقيمون نقاط تفتيش متطوعون بالسهر والتفتيش عن الأسلحة مع المارين. وكان جميعهم مسلحين. والأهم أن حلف شمال الأطلنطى قرر أن تكون ليلة الاثنين الماضى. راحة أسبوعية من ضرب طرابلس!
تأملت أسلحتهم، كانت فى أغلبها من طراز AK-47 وهى البنادق الآلية التقليدية التى يعرفها كل الشرق الأوسط. لكن المثير أن سياراتهم تتشابه مع سيارات الشعب المسلح الجيش الليبى كلها نصف نقل بيضاء اللون طراز تويوتا. ولقد تأكدت من بعد ذلك من أنه لا توجد سيارات من أى لون مخالف فى عموم الصحارى الليبية. سواء كان ملاكها عسكريين أم مدنيين!. والأهم: إننى لم أر مجنزرة واحدة أو مصفحة واحدة على الأقل. على طول الطريق من تونس إلى العاصمة الليبية. ولم أشهد أى منها فى شوارع طرابلس التى دخلتها مع الفجر الهاديء المنساب بعذوبة واطمئنان غريبين حتى على الليبيين أنفسهم. صباح الاثنين!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق